فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{كَلَّا إِنَّ كتاب الْفُجَّارِ لَفِي سجين (7)}
هذه الآية وما بعدها بظهر أنها من نمط المكي، وهذا أحد الأقوال التي ذكرناها قبل، و{كلاّ} يجوز أن يكون ردّاً لأقوال قريش، ويحتمل أن يكون استفتاحاً بمنزلة {ألا}، وهذا قول أبي حاتم واختياره، و{الفجار} الكفار، وكتابهم يراد فيه الذي فيه تحصيل أمرهم وأفعالهم، ويحتمل عندي أن يكون المعنى وعدادهم وكتاب كونهم هو في سجين، أي هنالك كتبوا في الأزل.
وقرأ أبو عمرو والأعرج وعيسى: {الفجار} بالإمالة و{الأبرار} [المطففين: 18] بالفتح قاله أبو حاتم، واختلف الناس في: {سجين} ما هو؟ فقال الجمهور: هو فعيل من السجن كسكير وشريب أي في موضع ساجن، فجاء بناء مبالغة، قال مجاهد: وذلك في صخرة تحت الأرض السابعة، وقال كعب حاكياً عن التوراة وأبيّ بن كعب: هو في شجرة سوداء هنالك، وقيل عن النبي صلى الله عليه وسلم: في بر هنالك. وقيل: تحت خد إبليس، وقال عطاء الخرساني: «هي الأرض السفلى»، وقاله البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال عكرمة: {سجين}، عبارة عن الخسران والهوان، كما نقول: بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الخمول، وقال قوم من اللغويين: {سجين}، عبارة عن الخسران والهوان، كما نقول: بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الخمول، وقال قوم من اللغويين: {سجين} نونه بدل من لام هو بدل من (السجيل) وقوله تعالى: {وما أدراك ما سجين} تعظيم لأمر هذا السجين وتعجب منه، ويحتمل أن يكون تقرير استفهام، أي هذا مما لم يكن يعرفه قبل الوحي. وقوله تعالى: {كتاب مرقوم} من قال بالقول الأول في {سجين} ف {كتاب} مرتفع عنده على خبر {إن}، والظرف الذي هو: {لفي سجين} ملغى، ومن قال في {سجين} بالقول الثاني ف {كتاب} مرتفع على خبر ابتداء مضمر، والتقدير هو كتاب مرقوم، ويكون هذا الكلام مفسر في السجين ما هو؟ و{مرقوم} معناه: مكتوب، رقم لهم بشر، ثم أثبته تعالى: {للمكذبين} بيوم الحساب والدين بالويل، وقوله: {يومئذ}، إشارة إلى ما يتضمنه المعنى في قوله: {كتاب مرقوم} وذلك أنه يتضمن أنه يرتفع ليوم عرض وجزاء، وبهذا يتم الوعيد ويتجه معناه و(المعتدي): الذي يتجاوز حدود الأشياء، و(الأثيم): بناء مبالغة في آثم.
وقرأ الجمهور: {تتلى}، بالتاء.
وقرأ أبو حيوة: {يتلى}، بالياء من تحت، و(الأساطير): جمع أسطورة وهي الحكايات التي سطرت قديماً، قيل هو جمع: أسطار، وأسطار: جمع سطر، ويروى أن هذه الآية نزلت بمكة في النضر بن الحارث بن كلدة وهو الذي كان يقول: {أساطير الأولين}، وكان هو قد كتب بالحيرة أحاديث رستم واسبنذباذ، وكان يحدث بها أهل مكة، ويقول أنا أحسن حديثاً من محمد، فإنما يحدثكم بـ: {أساطير الاولين}، وقوله تعالى: {كلا} زجر ورد لقولهم: {أساطير الأولين}، ثم أوجب أن ما كسبوا من الكفر والطغيان، والعتو، قد {ران على قلوبهم}، أي غطى عليها وغلب فهم مع ذلك لا يبصرون رشداً ولا يخلص إلى قلوبهم خير، ويقال: رانت الخمر على عقل شاربها وران الغش على قلب المريض، وكذلك الموت، ومنه قول الشاعر: الخفيف:
ثم لما رآه رانت به الخمر ** وإن لا يرينه باتقاء

والبيت لأبي زيد، وقال الحسن وقتادة: الرين الذنب على الذنب حتى يموت القلب، ويروى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل إذا أذنب صارت نقطة سوداء على قلبه ثم كذلك حتى يتغطى». فذلك الرين الذي قال الله تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: {بل ران} بإدغام في الراء.
وقرأ نافع: {بل ران} غير مدغمة.
وقرأ عاصم: {بل} ويقف ثم بيتدئ {ران}.
وقرأ حمزة والكسائي: الإدغام وبالإمالة في {ران}.
وقرأ نافع أيضاً: بالإدغام، والإمالة، قال أبو حاتم: القراءة بالفتح والإدغام، وعلق اللوم بهم فيما كسبوه وإن كان ذلك يخلق منه واختراع لأن الثواب والعقاب متعلق بكسب العبد، و{كلا} في قوله تعالى: {كلا إنهم على ربهم} يصلح فيها الوجهان اللذان تقدم ذكرهما، والضمير في قوله: {إنهم عن ربهم} هو للكفار، قال بالرؤية وهو قوله أهل السنة، قال إن هؤلاء لا يرون ربهم فهم محجوبون عنه، واحتج بهذه الآية مالك بن أنس عن مسألة الرؤية من جهة دليل الخطاب وإلا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصص، وقال الشافعي: لما حجب قوم بالسخط دل على أن قوماً يرونه بالرضى، ومن قال بأن لا رؤية وهو قول المعتزلة، قال في هذه الآية: إنهم محجوبون عن رحمة ربهم وغفرانه، وصلي الجحيم مباشرة حر النار دون حائل، وقوله تعالى: {ثم يقال هذا الذي}، على معنى التوبيخ لهم والتقريع، وقوله تعالى: {هذا الذي كنتم به تكذبون}، مفعول لم يسم فاعله لأنه قول بني له الفعل الذي يقال، وقوله: {هذا} إشارة إلى تعذيبهم وكونهم في الجحيم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كتاب الفجار لَفِي سجين}
قال قوم من أهل العلم بالعربية: {كَلاَّ}: ردْع وتنبيه؛ أي ليس الأمر على ما هم عليه من تطفيف الكيل والميزان، أو تكذيب بالآخرة، فليرتدعوا عن ذلك.
فهي كلمة رَدْع وزَجْر، ثم استأنف فقال: {إِنَّ كتاب الفجار}.
وقال الحسن: {كَلاَّ} بمعنى حَقًّا.
ورَوَى ناس عن ابن عباس {كلا} قال: ألا تصدقون؛ فعلى هذا الوقفُ {لِرب العالمِين}.
وفي تفسير مقاتل: إن أعمال الفجار.
وروي ناس عن ابن عباس قال: إن أرواح الفجار وأعمالهم {لفِي سجين}.
وروى ابن أبي نجَيج عن مجاهد قال: سجين صخرة تحت الأرض السابعة، تقلب فيجعل كتاب الفجار تحتها.
ونحوه عن ابن عباس وقتادة وسعيد بن جُبير ومقاتل وكعب؛ قال كعب: تحتها أرواح الكفار تحت خدّ إبليس.
وعن كعب أيضاً قال: سجين صخرة سوداء تحت الأرض السابعة، مكتوب فيها اسم كل شيطان، تلقى أنفس الكفار عندها.
وقال سعيد بن جبير: سجين تحت خد إبليس.
يحيى بن سلام: حجر أسود تحت الأرض، يكتب فيه أرواح الكفار.
وقال عطاء الخُراساني: هي الأرض السابعة السفلى، وفيها إبليس وذرّيته.
وعن ابن عباس قال: إن الكافر يحضُره الموت، وتحضره رسل الله، فلا يستطيعون لبغض الله له وبغضهم إياه، أن يؤخروه ولا يعجلوه حتى تجيء ساعته، فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه، ورفعوه إلى ملائكة العذاب، فأروه ما شاء الله أن يُرُوه من الشر، ثم هبطوا به إلى الأرض السابعة، وهي سجين، وهي آخر سلطان إبليس، فأثبتوا فيها كتابه.
وعن كعب الأحبار في هذه الآية قال: إن رُوح الفاجر إذا قبضت يُصْعد بها إلى السماء، فتأبى السماء أن تقبلها، ثم يُهْبط بها إلى الأرض، فتأبى الأرض أن تقبلَها، فتدخل في سبع أرضين، حتى يُنْتَهِى بها إلى سجين، وهو خد إبليس، فيخرج لها من سجين من تحت خدّ إبليس رَقّ، فيرقم فيوضع تحت خد إبليس.
وقال الحسن: سجين في الأرض السابعة.
وقيل: هو ضرب مثل وإشارة إلى أن الله تعالى يرد أعمالهم التي ظنوا أنها تنفعهم.
قال مجاهد: المعنى عملهم تحت الأرض السابعة لا يصعد منها شيء.
وقال: سجين صخرة في الأرض السابعة.
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سجين جُب في جهنم وهو مفتوح».
وقال في الفلق: «إنه جُبّ مغطى».
وقال أنس: هي دَرَكة في الأرض السفلى.
وقال أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: «سجين أسفلَ الأرض السابعة».
وقال عِكرمة: سجين: خسار وضلال؛ كقولهم لمن سقط قدره: قد زلق بالحضيض.
وقال أبو عبيدة والأخفش والزجاج: {لفِي سجين} لفي حبس وضيق شديد، فِعيِّل من السَّجْن؛ كما يقول: فِسِّيق وشِرِّيب؛ قال ابن مقبل:
ورُفقةٍ يضرِبون البَيْضَ ضاحِية ** ضَرْباً تواصتْ به الأبطالُ سجيناً

والمعنى: كتابهم في حبس؛ جعل ذلك دليلاً على خساسة منزلتهم، أو لأنه يَحُل من الإعراض عنه والإبعاد له مَحَلّ الزجر والهوان.
وقيل: أصله سِجِّيل، فأبدلت اللام نوناً.
وقد تقدّم ذلك.
وقال زيد بن أسلم: سجين في الأرض السافلة، وسجِيل في السماء الدنيا.
القُشيريّ: سجين: موضع في السافلين، يدفن فيه كتاب هؤلاء، فلا يظهر بل يكون في ذلك الموضع كالمسجون.
وهذا دليل على خبث أعمالهم، وتحقير الله إياها؛ ولهذا قال في كتاب الأبرار: {يشهده المقربون}.
{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سجين} أي ليس ذلك مما كنت تعلمه يا محمد أنت ولا قومك.
ثم فسره له فقال: {كتاب مرقوم} أي مكتوب كالرقْم في الثوب، لا يُنْسَى ولا يُمْحى.
وقال قتادة: مرقوم أي مكتوب، رقم لهم بشر: لا يُزاد فيهم أحدَ ولا يَنْقُص منهم أحد.
وقال الضحاك: مرقوم: مختوم، بلغة حمير؛ وأصل الرقم: الكتابة؛ قال:
سأُرقم في الماءِ القراح إِليكُمُ ** على بعدِكُم إِن كان للمِاءِ راقِمُ

وليس في قوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سجين} ما يدل على أن لفظ سجين ليس عربياً، كما لا يدل في قوله: {القارعة مَا القارعة وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة} [القارعة: 1-3] بل هو تعظيم لأمر سجين.
وقد مضى في مقدّمة الكتاب والحمد لله أنه ليس في القرآن غير عربيّ.
{وَيْلٌ يومئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي شدةٌ وعذاب يوم القيامة للمكذبين.
ثم بيَّن تعالى أمرهم فقال: {الذين يُكَذِّبُونَ بِيوم الدين} أي بيوم الحساب والجزاء والفصل بين العباد.
{وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} أي فاجر جائز عن الحق، معتد على الخلق في معاملته إياهم، وعلى نفسه، وهو أثيم في ترك أمر الله.
وقيل هذا في الوليد بن المغيرة وأبي جهل ونظرائهما؛ لقوله تعالى: {إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قال أَسَاطِيرُ الأولين} وقراءة العامة {تُتْلَى} بتاءين، وقراءة أبي حَيْوة وأبي سِماك وأشهب العُقَيلي والسُّلَمي: {إذا يُتْلَى} بالياء.
و{أساطير الأولين}: أحاديثهم وأباطيلهم التي كتبوها وزخرفوها.
واحدها أُسْطورة وإِسطارة، وقد تقدّم.
قوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}:
{كلا}: ردْع وزجْر، أي ليس هو أساطيرَ الأَوّلينَ.
وقال الحسن: معناها حقًّا {رَانَ على قُلُوبهمْ}.
وقيل: في الترمذيّ: عن أبي هُريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكِتَتْ في قلبه نُكْتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر الله وتاب، صُقِل قلبه، فإن عاد زيد فيها، حتى تعلُوَ على قلبه، وهو (الرَّانُ) الذي ذكر الله في كتابه {كَلاّ بلْ رَان على قُلُوبهمْ ما كانوا يَكْسِبون}».
قال: هذا حديث حسن صحيح.
وكذا قال المفسرون: هو الذنب على الذنب حتى يسودّ القلب.
قال مجاهد: هو الرجل يُذْنب الذنب، فيحيط الذنب بقلبه، ثم يدنب الذنب فيحيط الذنب بقلبه، حتى تُغَشِّي الذنوب قلبه.
قال مجاهد: هي مثل الآية التي في سورة البقرة: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً}... الآية.
ونحوه عن الفراء؛ قال: يقول كثرت المعاصي منهم والذنوب، فأحاطت بقلوبهم، فذلك الرَّيْنُ عليها.
ورُوي عن مجاهد أيضاً قال: القلب مثل الكهف ورفع كفه، فإذا أذنب العبد الذنب انقبض، وضم إصبعه، فإذا أذنب الذنب انقبض، وضم أخرى، حتى ضم أصابعه كلها، حتى يُطْبَع على قلبه.
قال: وكانوا يرون أن ذلك هو الرَّيْن، ثم قرأ {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.
ومثله عن حذيفة رضي الله عنه سواء.
وقال بكر بن عبد الله: إن العبد إذا أذنب صار في قلبه كوخزة الإبرة، ثم صار إذا أذنب ثانياً صار كذلك، ثم إذا كثرت الذنوب صار القلب كالمُنْخُل، أو كالغِربال، لا يعي خيراً، ولا يثبُت فيه صلاح.
وقد بيَّنا في (البقرة) القول في هذا المعنى بالأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا معنى لإِعادتها.
وقد روى عبد الغني بن سعيد عن موسى بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، وعن موسى عن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس شيئاً الله أعلم بصحته؛ قال: هو الرَّان الذي يكون على الفخذين والساق والقدم، وهو الذي يُلْبس في الحرب.
قال: وقال آخرون: الران: الخاطر الذي يخطر بقلب الرجل.
وهذا مما لا يُضْمن عُهْدة صحتِه. فالله أعلم.
فأما عامة أهل التفسير فعلى ما قد مضى ذكره قبل هذا.
وكذلك أهلُ اللغة عليه؛ يقال: رَانَ على قلبه ذنبُه يَرِينُ رَيْنا ورُيونا أي غلب.
قال أبو عُبيدة في قوله: {كَلاَّ بلْ رَانَ على قُلُوبِهمْ ما كانوا يكسِبُونَ} أي غلب؛ وقال أبو عُبيد: كل ما غلبك وعَلاَكَ فقد ران بك، ورانك، وران عليك؛ وقال الشاعر:
وكَمْ رانَ مِن ذنبٍ على قلِب فاجِرٍ ** فتابَ مِن الذنبِ الذي رَانَ وانجلى

ورانتْ الخمر على عقله: أي غلبته، وران عليه النُّعاسُ: إذا غطّاه؛ ومنه قول عمر في الأُسَيفع أُسَيْفعِ جُهَيْنة: فأصبح قد رِينَ به.
أي غلبته الديون، وكان يَدَّانُ؛ ومنه قول أبي زُبَيد يصف رجلاً شرب حتى غلبه الشراب سُكْراً، فقال:
ثم لما رآه رانتْ بِهِ الخم ** رُ وأَنْ لا تَرِينَه بِاتقاءِ

فقوله: رانت به الخمر، أي غلبت على عقله وقلبه.
وقال الأمويّ: قد أران القوم فهم مُرِينون: إذا هلكت مواشيهم وهُزِلت.
وهذا من الأمر الذي أتاهم مما يغلبهم، فلا يستطيعون احتماله.
قال أبو زَيد يقال: قد رِينَ بالرجل رَيْنا: إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه، ولا قبل له وقال: أبو مُعاذ النحويّ: الرَّين: أن يسودّ القلب من الذنوب، والطَّبَع أن يُطْبَع على القلب، وهذا أشد من الرَّين، والإقفال أشد من الطَّبَع.
الزَّجّاج: الرَّيْن: هو كالصدأ يُغَشِّي القلب كالغيم الرقيق، ومثله الغين، يقال: غِين على قلبه: غُطِّي.
والغَين: شجر ملتف، الواحدة غيناء، أي خضراء، كثيره الورق، ملتفة الأغصان.
وقد تقدم قول الفراء أنه إحاطة الذنب بالقلوب.
وذكر الثعلبيّ عن ابن عباس: {ران على قلوبِهم}: أي غطَّى عليها.
وهذا هو الصحيح عنه إن شاء الله.
وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وأبو بكر والمفضل {ران} بالإمالة؛ لأن فاء الفعل الراء، وعينه الألف منقلبة من ياء، فحسنت الإمالة لذلك.
ومن فتح فعلى الأصل؛ لأن باب فاء الفعل في (فَعَلَ) الفتح، مثل كال وباع ونحوه.
واختاره أبو عُبيد وأبو حاتم ووقف حفص {بَلْ} ثم يبتديء {رَانَ} وقفاً يُبَيِّن اللام، لا للسكت.
قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ} أي حقًّا {إنهم} يعني الكفار {عَن رَّبِّهِمْ يومئِذٍ} أي يوم القيامة {لَّمَحْجُوبُونَ}.
وقيل: {كلا} ردع وزجر، أي ليس كما يقولون، بل {إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يومئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}.
قال الزجاج: في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يُرىَ في القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خست منزلة الكفار بأنهم يحجبون.
وقال جل ثناؤه: {وُجُوهٌ يومئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23] فأعلم الله جل ثناؤه أن المؤمنين ينظرون إليه، وأعلم أن الكفار محجوبون عنه، وقال مالك بن أنس في هذه الآية: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه.
وقال الشافعي: لما حجب قوماً بالسخط، دل على أن قوماً يرونه بالرضا.
ثم قال: أما والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا.
وقال الحسين بن الفضل: لما حجبهم في الدنيا عن نور توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته.
وقال مجاهد في قوله تعالى: {لَّمَحْجُوبُونَ}: أي عن كرامته ورحمته ممنوعون.
وقال قتادة: هو أن الله لا ينظر إليهم برحمته، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
وعلى الأول الجمهور، وأنهم محجوبون عن رؤيته فلا يرونه.
{ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الجحيم} أي ملازموها، ومحترفون فيها غير خارجين منها، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء: 56] و{كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء: 97].
ويقال: الجحيم الباب الرابع من النار.
{ثُمَّ يُقال} لهم أي تقول لهم خزنة جهنم {هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} رسل الله في الدنيا. اهـ.